عن الوباء والحجر وحديث عيسى بن هشام: مسامرة ومجادلة مع المدق


ضمن استكشافها المبهر لتاريخ المدينة في القاهرة، وفي ظل الوباء المخيم والحجر القائم، ذكرتنا المدق بأن محمد المويلحي استكشف في نصه الفريد حديث عيسى بن هشام فكرة الوباء والحجر وقدم لنا حوارا ما بين عالم قديم لم يقتنع بعد بفائدة الحجر ولم يع بعد ما العدوى ، وما بين عالم جديد أصبح لديه الوعي واليقين بما هية الجراثيم وبطرق انتشار العدوى وفوائد الحجر، وينتهي  الحوار بين الباشا الذي بعث من قبره ليمثل العالم القديم، والراوي عيسى بن هشام الذي يراقب الأحداث بوعي عميق بالقديم والجديد بزيارة المختبر لرؤية (ينتصر المويلحي في ذلك لا للعلم فحسب ولكن للعلم المجهري و"الإمبريقي" إن جاز التعبير).
ولأن هذا النص نص أحبه وأجله، وهو نص درسته ودرّسته، وأراه من أعمق الردود على أزمة الحداثة، فإني بهذا المقال أدخل في مسامرة وجدل مع المدق، وأضيف إلى ما قالوه.

فقد بدا من سياق الحديث ومن تعليقات بعض القراء—  وأعلم أن هذه لم تكن، على الأغلب، نية المدق— كما لو كان حديث عيسى بن هشام نصا حداثيا محضا ينتصر للتنوير على الجهل والخرافة. وطبعا لا تخلو هذه القراءة من صواب، فهذا النص هو أحد النصوص التي فتحت باب الحداثة في الأدب العربي، سواء باستلهامه شكل الرواية (التي لا تعتبر فقط شكلا "حديثا" للسرد ولكنها كذلك تعبر عن الحداثة في فهمها لطبيعة الزمان والمكان وهذا حديث يطول) وفي استعارته كذلك لبعض الأساليب المسرحية، وفي شرحه للأفكار العلمية وسخريته من المتحجرين في الماضي ومن أهل الجهل والخرافة. ولكن هذه نصف الحكاية.
فقد تلقف المويلحي الحداثة بموقف نقدي، وبينما سخر من المتجمدين في الماضي والعالقين في الخرافة، فإنه صب أكثر نقده على الذين انساقوا وراء حداثة الغرب ولم يتلقوها بوعي يتمسك بالتراث و/أو يناهض الاستعمار. نعلم، كما أشرتم، أن المويلحي كان من مؤيدي الثورة العرابية (قبض عليه وهو يوزع منشوراتها وحكم عليه بالإعدام ثم خفف الحكم إلى النفي لأن أباه كان من الباشوات)، ولكني أضيف على ذلك أن المويلحي كان من القلائل الذين لم يكتفوا بمناهضة الاستعمار سياسيا بل صاغوا موقفا معرفيا مضادا لنظام المعرفة الاستعماري.

تعرفون طبعا نظرية تيموثي ميتشل عن أن الترتيب المديني الحديث هو أمر استعماري بالأساس؛ المويلحي كان من أول من فطنوا إلى ذلك (هناك قصة أرددها دوما عن أني حاولت إبهار تيموثي ميتشل بالربط ما بين كتابه استعمار مصر وبين حديث عيسى بن هشام فقاطعني قائلا "ومن أين ظننتني جئت بهذا الكلام")؛ ولكن دعوني أجر النقاش إلى مجال النقد الأدبي الذي أشعر فيه براحة أكثر من مجال التخطيط المدني (وإن كنت دخيلا على الاثنين): عندما جاءتنا الحداثة في سنابك الاستعمار كان أمام الكتاب العرب ثلاث خيارات: الانسياق وراء هذه الحداثة وهذا شأن معظمهم، أو رفضها تماما وهذا هو موقف التقليديين أو فيما بعد ذلك السلفيين (وتعرفون طبعا أن هذا موقف مخادع معرفيا لأنه يعيد تخيل التراث من خلال أفق حددته الحداثة ونظامها المعرفي)، أو صياغة حداثتنا البديلة؛ وكان المويلحي من رواد هذا المجال: إنها "الحداثة الممكنة" التي تحدثت عنها رضوى عاشور في كتابها عن الشدياق. هذا الموقف النقدي والمعقد (والذي لم يكن من السهل صياغته بشكل مباشر بالذات وهو في مراحل تشكله، فطوع له المويلحي الشكل الحِواري الذي استلهمه من الرواية والمسرح، ومن عميق تراثنا من فن المقامة) يظهر في حوار عيسى بن هشام والباشا حول الأمراض والعدوى والحجر. وإن كان النص يسخر من الذين ينكرون العلوم الحديثة ويبين تهافتهم وجهلهم، فإنه يسخر أكثر ما يسخر من الذين يدعون هذه الاكتشافات العلمية تسبب لهم وساسا يشكل حياتهم، أو الذين يستعيضون بالإيمان بالعلم عن الإيمان بقدر الله؛ أي الذين انتهجوا نظاما للمعرفة وللحياة يتتبع خطى الحداثة كما عرفها الغرب وفرضها ولم ينتجوا حداثتهم إنتاجا. ويرى أن الذين جمعوا ما بين الالتزام بقواعد الوقاية الطبية مع الإيمان بقضاء الله هم وحدهم الأصحاء، بينما الذين تجاهلوا الأولى في مرض جسدي والذين تجاهلوا الثانية في مرض نفسي وعقلي (وجسدي في بعض الأحيان). السخرية هنا مزدوجة من أتباع الحداثة الاستعمارية لأنهم لم يرسخوا لا في ثقافتهم الموروثة ولا في العلم الحديث الذي اكتفوا بتلقيه عن الأوروبيين من دون الغوص فيه والتمكن منه.
فيقول ساخرا، على لسان أحد الأطباء:

وما يغرب عنك أن كثيرا من المولعين بسوء التقليد للغربيين، والمتهالكين على حب التظاهر بمظهر الرفه والترف، يغالون في الاحتياط لأبدانهم، ويبالغون في التوقي لأجسامهم، فينمو فيهم وسواس المرض والسقم، فتراهم يتوجسون من كل أكلة شرا، ويتوقعون في كل ضربة ضرا، ويتخيلون أن في كل لقمة تخمة، وفي كل جرعة غصة، فلا يتناولون قدحا من الماء، أو يستنشقون نفسا من الهواء، إلا وفي اعتقادهم أنه لا يخلو من من كل هامة سامة، أو جرثومة ضارة... ويصبح كل واخد منهم جازما بأن به داءً دفينا وما به من داء، وعلى كامنة وما به من علة.
 (وفي موضع أخر يقول أحد الأعيان، ساخرا من المتعلمين تعليما غربيا حديثا وفي نفس الوقت مبديا جهله هو بالعلم، متحدثا عن ولد تلقى التعليم في مدرسة أجنبية: "فأصبح لا يكلم أهله إلا بالرطانة... ولا يرضى عن شيء في البيت، فإذا جاءوا له بالماء قال فيه المكروب، وإذا أتوه بالخبز والجبن قال عليّ بالميكروسكوب").

لا يلبث المويلحي أن ينتقل من موقف السخرية إلى موقف الهجوم فيقول:


وهناك طبقة ... حديثة النشأة، حديثة التربية... لم يرسخ الإيمان في قلوبهم... ولم يتأدبوا بأدب الدين، ولم يرتاحوا لحسن اليقين، بل اقتصرت بضاعتهم على ما تلقوه في المدارس من العلوم الآلية، والفنون الصناعية، دون علوم التربية النفسانية، والفصائل الروحانية، وخلت صدورهم من آيات الله والحكمة، قد أخذوا عن بعض الغربيين عادة التهاون بالشرائع، والازدراء بالإيمان، ولم يحيطوا بشيء من العلوم الموضوعة، لتقويم النفوس وتطهير الطباع، ومعرفة الحقائق ورياضة القلوب على التجلد والثبات، عند وقوع المكروه ونزول الملمات، فتجدهم قد ظهروا للناس في هذه النازلة الوبائية، وانكشفوا لأهل البحث والنظر أصغر خلق الله نفوسا، وأجبنهم قلوبا، وأكثرهم هوسا ووسواسا، وأشدهم قلقا واضطرابا، وأعظمهم خوفا ورعبا، وأكبرهم بلاء وكربا، يتمثل لهم الموت في أعينهم في أفظع الصور، وأبشع المناظر، فيحاولون الفرار منه، وهو ممسك بنواصيهم، ويهابون دنوّه، وهو آخذ بتلابيبهم، حل الخوف مفاصلهم، واستل الرعب نخاعهم، فهم يرون في كل عود نعشا لهم، ويحسبون كل صيحة عليهم، أولئك لا إيمان لهم يثبت أقدامهم، ولا علم لديهم يرجح أحلامهم، بل هم على مثل حال المغشي عليه من الموت، أو الممسوس من الشيطان، يتوهمون طعم الموت، ومذاق الوباء، في تنفس الهواء، وتناول الغذاء، وشرب الماء، وملامسة الأيدي، ومخاطبة الناس، فإذا رأى المسكين منهم تلك الآلة الحدباء، تحمل أحد المصابين بالوباء، جمد دمه، وسال عرقه، وخمدت أنفاسه، والتوت أعصابه، وأمسك من بجانبه يتنجد بهم ويستغيث، ليحميه من شر العدوى، ويرفع عنه نزول البلوى... ومنهم من اعتكف على الخمر يشربها ليله ونهاره، عساها تجهله كيف اطمأنت به الحال، ومنهم من يبالغ ويغالي في تناول العقاقير السامة، والجواهر القتالة، مما وضعه الأطباء لقتل الجراثيم، فهو يشربها ويستعطيها، ويدهن بها جسده، ويغمس فيها ثيابه، ويبلل بها فراشه، ويغسل بها آنية طعامه وشرابه، كلما سمع بزيادة العدد في المصابين زاد في مقدار ما يستعمله منها يوما بعد يوم، حتى أصبحت أجسامهم مسمومة، وأبدانهم مهزولة، وسفاههم متقلصة، وعيونهم غائرة، ووجوههم مغبرة، وأناملهم مصفرة، ينطبق عليهم قوله جل وعلا: "ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت." إذا رأيتهم حسبتهم في حال المصابين بالفعل... ولما كان الخوف والوسواس من أكبر وجوه العذاب في الحياة، ومن أعظم الأسباب في رأي الأطباء لجلب الداء، كانوا هم أعداء أنفسهم بأنفسهم، وهم أصحاب الأرواح السقيمة، في الأجسام السقيمة، لهم النكد في الدنيا، ولهم الخزي في الآخرة.

  
المسألة هنا ليست مواءمة أو توفيقا ما بين التراث والحداثة الغربية (حاول الكثيرون من قبل المويلحي ومن بعده وفشلوا) ولكنه، بعد أن ساوى ما بين الأنظمة المعرفية، وبعد أن صاغ هو موقفا معرفيا منغرسا في التراث ومنفتحا على الحداثة، قلب الصورة النمطية التي يتبناها أصحاب الحداثة عن المتدينين والتراثيين بأنهم أهل خرافة يعيشون في المخاوف والوساوس، فأصبح الحداثيون هم أهل الخرافة والوسواس الذين يعيشون في خوف من كائنات غيبية لا تراها العين، وفي ممارسات قائمة على الوسوسة تضر أكثر مما تنفع؛ كان المويلحي يسخر من الذين ينكرون الحداثة، ولكنه كان في نفس الوقت ينتقم أشد الانتقام من الحداثة الاستعمارية.



Comments

Popular posts from this blog

ديوان الأعشاب: نباتات عطرية في تراث الشعوب

Barack Obama’s Promised Land: The Empire in Blackface

فيروز وما قالته الصورة