مختارات من شركة شكسبير الملكية

تقول الكاتبة المسرحية هناء خليل، التي تُقَدَّم مسرحيتها "متحف في بغداد" ضمن عروض شركة شكسبير الملكية: "لا أستطيع، إن أردت أن أكتب شيئا ذا معنى، أن أبتعد عما هو سياسي... ربما لأن أصولي فلسطينية وأيرلندية عندي حساسيةخاصة تجاه الظلم."

وبنفس المنطق، لا نستطيع نحن العرب أن نشاهد المسرحيات الإنجليزية أو نكتب عنها من دون النظر إلى بعدها السياسي.  وبنفس المنطق كذلك لا تهرب هذه الشركة من المحتوى السياسي لمسرحياتها، بل على العكس تبحث عن المسرحيات المعاصرة التي تمس واقعنا، مثل مسرحية "متحف في بغداد"، وتقدمها جنبا إلى جنب مع مسرحيات شكسبير التي تقدمها برؤية عصرية لا تخلو من أبعاد سياسية واجتماعية.

تأسست هذه الشركة البريطانية بمرسوم ملكي في العام 1925. قبل ذلك كان اسمها شركة "شكسبير المسرحية التذكارية المحدودة" وكانت تدير مسرح شكسبير التذكاري في مسقط رأسه في مدينة "ستراتفورد-على-ضفاف-الإيفون." بدأت هذه الشركة بتقديم مسرحيات شكسبير ولكنها توسعت بعد ذلك لتقدم مسرحيات غيره من كتاب عصره، ثم توسعت أكثر لتقدم مسرحيات لكتابٍ معاصرين.

وقد قدمت هذه الشركة على مدى العام الماضي مسرحيتين تعنياننا، نحن العرب، بشكل خاص، هما مسرحية "إنقاذ البندقية" لثوماس أوتواي (قُدمت لأول مرة في 1682) ومسرحية "متحف في بغداد" (وهذا هو عرضها الأول). وبهما نبدأ مراجعتنا.

إنقاذ البندقية

في عام 1649 ألغى البرلمانيون الإنجليز الملكية وتولت طائفة الغُلَاة البروتستانت المعروفة بالمتزمتين أو التطهريين puritans  مقاليد الأمور. أغلق الغلاةُ المسارح وجَلَدوا الممثلين في الشوارع وسادت فترة من القمع والظلام. لم تَكُنْ مفاجأةً إذن أن يفرح المسرحيون بعودة الملكية في 1660. وفي المقابل فتح الملك تشارلز الثاني الباب للمسارح والملاهي وأخذ قرارًا جريئًا سيغير وجه المسرح الإنجليزي إلى الأبد، وهو السماح، لأول مرة في تاريخ إنجلترا، للنساء بالظهور على خشبة المسرح. وعندما أتيحت الفرصة للجمهور الإنجليزي أن يرى النساء لأول مرة على المسرح؛ لم يطلب هذا الجمهور الاستماعَ إلى حكايات النساء ولا أن يراهُنَّ في أدوار مركبة، ولا حتى أن يراهنّ في زينتهنَّ إرضاءً لشهوة ذكورية، ولكنه طلب أن يراهن وهن يتعرضن للإهانة والتنكيل وينتهي بهِنَّ الحالُ إلى نهاياتٍ مأسوية يتلقَيْنَها بلا حولٍ ولا قوة، فوُلد نوع من المأسويات يسمى she-tragedy  (يمكن أن نترجمها إلى "التراجيديا المؤنثة" أو "مأساتها") يتسلى فيه الجمهور بالفرجة على مصائب النساء – وهذه معلومة تُهدَى إلى كل الذين يقولون بأن ثقافة الغرب كانت دائما تقدر النساء وتحترمهن مقابل ثقافتنا التي يصورونها دائمًا كارهةً للنساء ومزدريةً لهُن.

لكن هذا لم يمنع من ظهور أدوار نسائية مركبة وحبكات معقدة حول بطلات المسرحيات النساء، فهذه اللحظة جاءت بعد تراثٍ طويل من التراجيديا الإنجليزية كان بعض أبطالها من النساء اللائي يلعب الرجالُ أدوارَهنّ. ولكنَّ السماحَ للنساء بالتمثيل أعطى كذلك المجال للممثلات ليشاركن في صياغة وبناء الشخصيات النسائية المسرحية. وقيل إن كاتب المسرحيات الأشهر في هذه المرحلة، ثوماس أوتواي، كان يتعاون مع الممثلة الأشهر إليزابيث باري  لكتابة أدوارها في مسرحياته.

كتب أوتواي مسرحية "إنقاذ البندقية" في هذه الظروف ولعبت إليزابيث باري في عرضها الأول دور بلفيديرا التي ينساق زوجها جافيير إلى مؤامرة ثورية يغويه إليها صديقه الجندي السابق بيير.

تذهب المسرحية إلى فينيسيا- البندقية ونراها عالما قاتما حكامه، رجال "المجلس" أو "السينات" senate، فاسدون قساة، وثواره دمويون، يريدون قتل كل رجال السينات ويقولون بأنه لو استعصى عليهم قتلهم فسيدكون مساكنهم بالمدفعية ليقتلوا كل من فيها. وبينما ينساق جافيير للمؤامرة/الثورة، يضطر إلى ترك بلفديرا رهينة في يد الثوار ليثبت لهم ولاءه، فتبدأ بذلك مأساتها؛ وبالرغم من أن جافيير يبدو، حتى وهو ينساق للمؤامرة الدموية، نقيا نبيلا، فإننا نرى كيف أنه يريد أن يثبت شرفه ونبله على حساب امرأته. إلا أن أحد الثوار يحاول اغتصاب بلفيديرا في محبسها – ونراه بعد ذلك يلوم نفسه ونراه ينكر التهمة حين يُوَاجَه بها. ويزور جافيير بلفيديرا في محبسها فتخبره بما جرى وتستحلفه أن يهرب بها وأن يُحَذِّر رجال السينات من  المؤامرة الدموية (خاصة وأن أحد رجال السينات هو أبوها الذي تبرأ منها ومنع أمواله عنها حين تزوجت بجافيير وكان جافيير يظن أنها ستسعد بانتقامه لها من أبيها).

يكبر النزاع في نفس جافيير بين ولائه لرفاقه، ولصديقه بيير بالذات، وبين وعده لزوجته.

وعشية الثورة يوصيهم رينو، وهو نفس المتآمر الذي حاول اغتصاب بلفيديرا بألا تأخذهم برجال السينات رحمة وألا يذروا نساءهم وأطفالهم إذا لزم الأمر. وتساعد هذه الوصيةُ جافييرَ على حسم أمره فيساعد بلفديرا على الهرب ويسلمان نفسيهما للسينات ويعدان بكشف المؤامرة إن وعدهم أعضاؤه بالعفو عن زملائهم. إلا أن رجال السينات ينكثون بعهدهم ويصدرون أحكام الإعدام على كل المتآمرين.

وكانت في الحيّ غانيةٌ تحب بييرَ ويجتمع الثوار في بيتها، اسمها أكويلينا، وكان أحد أعضاء السينات، ويدعى أنطونيو يتردد، على أكويلينا ويُحِبُّ أن تهينه وتركله وتبصق عليه. تحاول أكويلينا أن تستميل أنتونيو لكي يُفرِجَ عن بيير، ثم تهدِّده، وفي البداية يثار السيناتور ويحسب ما تفعله نوعا من الملاعبة، ثم حين تهدده بالقتل يدرك أنها صادقة في وعيدها فيعدها بأنه سيفرج عنه، ومرة أخرى ينكث رجال السيناتور وعودهم. وبينما يتردى الحال ببلفديرا التي تصاب بالجنون ثم تلقي بنفسها في النهر وتترك نفسها لمياهه إلى أن تغرق (في مشهد يذكرنا، بالطبع، بموت/انتحار أوفيليا)، يؤخذ بيير إلى منصة الإعدام، ولكن قبل تنفيذ الحكم ينقض عليه جافيير، بناء على طلبه هو، فيقتله ويقتل نفسه، ليموتا بشرف: ويموت جافيير وهو يعلن دمه لعنةَ على الحكام وذريتهم "ليصبحوا غرباء عن السلام... ليُهلِك الطاعونُ والجوع نسلَهم!"

وضع المخرج أحداث المسرحية في مستقبل مفزع تلعب التكنولوجيا فيه دورها في عنف السلطة وعنف الثوار المضاد؛ لم يضف شيئا إلى النص، ولكنه من خلال الأزياء والديكورات والإيماءات وبعض المقاطع التي عُرِضَت على البروجيكتور كما لو كانت مقاطع تسجيلية من جرائد أو نشرات أخبار، جَعَل العرضَ مُعَاصِرًا، أو جعله بالأحرى نَذِيرًا بمستقبل مرعب. كما جعل من الثوار، من خلال إضافات بصرية ومن دون تغيير في النص، قَراصِنةً إلكترونيين/ مُهَكِّرين.

ويرتدي الثوار في هذه المسرحية أقنعة في/غاي فوكس التي يرتديها المحتجون بالذات من ذوي الميول الفوضوية في سائر أنحاء العالم، والتي يستخدمها نشطاء أنونيموس الإلكترونيون، كما يرتدي رجال السينات في المسرحية نسخةً معدلة من الأقنعة ذاتها. وبالإضافة إلى إشارتها إلى الحركات الاحتجاجية والإلكترونية/السيبرانية المعاصرة، تُحِيل هذه الأقنعة، بوضوح، على الديستوبيا البريطانية وأيقونتها، أي رواية في فور فانديتا (ثارات ث) المصورة، والتي أصبحت فيلمًا شهيرًا في 2005. هذه الإحالة قد تُقرَأ أيضا على أنها تذكيرٌ بالثاتشرية ونذيرٌ بالموجة اليمينية القادمة (التي بدأت في الصعود أثناء من عرض المسرحية): فرواية ثارات ث، التي تحكي عن صعود الفاشية في بريطانيا في الثمانينيات، كُتبت في أوائل عهد مارغريت ثاتشر وقبل أن تكشر الثاتشرية عن أنيابها؛ وفي مقدمته لطبعة دي سي كوميكس لعام 1988 للرواية، يقول مؤلفها آلان مور أن نبوءته على صدقها كانت ساذجة إذ توقعت أن حدثا جللا مثل كارثة نووية من شأنه أن يدفع ببريطانيا إلى الفاشية (في حين ذهبت بريطانيا في الثمانينيات إلى الفاشية الثاتشرية طوعا، ومن خلال الإجراءات الدستورية، تماما كما تفعل الآن).

وفي مقابل هذا الواقع القاتم، على خشبة المسرح وخارجها، يَترُكُ المخرج فسحةً صغيرةً للأمل في مشهد سريالي، تَجتَمعُ فيهِ الخصوم، أحياءَهم وأمواتَهم، وسط ضباب المدينة وظلامها، ثم يخرج بيير وجافيير، الميتين، من ناحية، وتحاول بلفديرا أن تتبع شبح زوجها فلا تستطيع، ثم يخرج السيناتور أنطونيو من ناحية أخرى فتلقم الغانية أكويلينا مسدسها وتتبعه. يبقى احتمال الثورة، والثأر، وسط الضباب والمأساة، قائمًا، وإن لم يكن أكيدًا.

لا تستسلم المسرحية لليأس ولكنها لا تعُطي أملا كاذبا، ولا تُجَمِّل الثوريين أو تنحاز إليهم (وإن كانت في هذا العرض بالذات أبدت بعض التعاطف مع قضيتهم) ولكنها لا تنحاز كذلك لأصحاب السلطة الفاسدين نكَّاثي العهود. ولكنْ، وحتى إزاء هذه الواقعية القاتمة والحيادية الكئيبة، لا يستطيع المشاهد العربي ألا تأخذَه الحماسة والثوار يعلنون "متحدين ، نحن الآلةُ العظمى، التي حتمًا ستنزع، هذه الإمبراطوريةَ المتغلغلة، من أساسِها."

"متحف في بغداد" وتركة الاستعمار الثقيلة

تقدم لنا هذه المسرحية العراق، من خلال متحفه، ما بين احتلالين. وبينما تجعل من غيرترود بيل، المستشرقة البريطانية التي أسست المتحف وساهمت في تتويج الإنجليز للملك فيصل على العراق، بطلةً تراجيدية، فإنها تسائل تركة الاستعمار بلا هوادة.

تتساءل المسرحية عن جدوى المتاحف والآثار والتنقيب عنها بينما حقائق الاستعمار والعنف الأهلي تعصف بالبلاد؛ وهل يمكن أن تصبح هذه الآثار آداة لتوحيد الناس حول ماضيهم المشترك؛ أم أنها تظل آداة لتطويع الروايات التاريخية والهوية الوطنية لخدمة أصحاب السلطة؟ تذكرنا هذه النقاشات بالدور التاريخي للمتاحف كمؤسسة استعمارية تجمع آثار العالم في حاضرة الاستعمار وتكرس رؤية إمبريالية للعالم من منظور أوروبي.  وتفتح كذلك الباب لمناقشة ما إذا كانت المتاحف الوطنية تعيد إنتاج هذه الرؤية الإمبريالية في إطار وطني؛ وترفض إحدى العالمات العراقيات في المسرحية تجميعَ الآثار في بغداد وترى أن الآثار يجب أن تزار حيث وجدت وأن تكون متاحة للناس.

تعود المسرحية كذلك بأكثر من طريقة إلى القصف الإنجليزي للعراق في 1920، وبينما يرى عالم الآثار البريطاني، والاستعماري المتحمس، ليونارد وولي أن هذه اللحظة دليلٌ على أنْ لا شيء سيوقف طائفية العراقيين وقبليتَهم سوى القصف الإنجليزي، تتساءل غيرترود بيل عما إذا كان الإنجليز بهذا التدخل قد وضعوا سدا في وجه الطوفان العراقي الذي  كان لا بد منه لهدم العالم القديم وبناء عالم جديد؛ ما تزال غيرترود بيل لا ترى سوى الهدم في حركة شعب العراق واتحاده، ولكنها كذلك تضع يدها على أحد مشاكل الاستعمار الأساسية، إذ يئد الاستعمار حركةَ الشعب ومسارَه التاريخي (ولهذا نقول، نحن الدارسين للاستعمار، بأن نقدنا المستمر للاستعمار لا يعني أن كل مشاكلنا قد أورثنا الاستعمار إياها، ولكنَّ المشكلةَ الأكبرَ هي أنَّ الاستعمار منعنا من حل مشاكلنا على طريقتنا، ومن تطوير مجتمعاتنا على طريقتنا، إذ وأد هذه المسيرة وفرض نسخة مشوهة من نظامه هو ومن مسيرته)، وفي النهاية يقول سالم، مساعد غيرترود بيل العراقي الذي شهد تلك الأحداث صبيا والذي قصف البريطانيون بيت جدته، كَلِمته إذ يرى أن هذه كانت هي اللحظة التي أثبت العراقيون فيها أنهم يستطيعون أن ينبذوا خلافاتهم ويتحدوا لهدف وطني مشترك، وأن العنف الاستعماري، ممثلا في القصف الإنجليزي، هو الذي وأد هذا الميلاد الوطني.
  
وتأخذ المسرحية موقفا شبيها، وربما أكثر حزما، من الاحتلال الأمريكي، وعندما يسأل الناسُ العالمةَ العراقية ليلى، التي تريد أن يَرحَلَ كلُّ المحتلين فورًا، عما إذا كانت تخاف مما يمكن أن يحدث في حال انسحاب الأمريكيين، تقول بأنها تخاف، ولكن مهما كانت تبعات انسحاب المحتلين، فتلك التبعات، بحسب ليلى، أمر لا بد أن نمر به لكي نمتلك قرارنا: "إلى ذلك الحين نحن مثل الغبار، مثل رمل في مهب الريح، تدفعه هنا وهناك أهواء الغرب."

تصادف عرض هذه المسرحية مع قرار شركة شكسبير الملكية إلغاء شراكتها مع "الشركة البريطانية للبترول" BP، التي تلعب دورها في نهب بترول العراق وفي دعم آلة الحرب البريطانية والأمريكية. ألغيت هذه الشراكة لأسباب بيئية لا لأسباب تتعلق بالدور الاستعماري لشركة البترول. إلا أن تزامن هذا القرار مع عرض هذه المسرحية يكسبه رمزية خاصة ويجعله خطوة في طريق مساءلة تاريخ بريطانيا الاستعماري وحاضرها.

"الملك جون" ومصير بريطانيا المبهم

مسرحية "الملك جون" هي من مسرحيات شكسبير السياسية التي يمتد الصراع فيها من مؤامرات البلاط إلى ساحات القتال الدموية، ومن إنجلترا إلى فرنسا وإيطاليا. مات ريتشارد قلب الأسد وخلفه أخوه الملك جون. وكانت المؤامرات تحيط بالملك من كل مكان، فهناك آخرون من ورثة ريتشارد يطمعون في الحكم، وأم ابن أخيه آرثر تتواطأ مع ملك الفرنسيين فيليب ليغزو إنجلترا ويضع ابنها على العرش. يلجأ الملك جون إلى دبلوماسية الأرستقراطيين فيزوج ابنةَ أختِه، بلانش القشتالية، إلى ولي عهد فرنسا لويس الثامن؛ ويبدو السلام مع فرنسا وشيكا. إلا أن مؤامرات أم آرثر تستمر، ويتدخل الفاتيكان، وينقسم النبلاء، ويدخل الملك جون في صراع دموي، يقرر في خضمه أن يقتل ابن أخيه، الطفل آرثر، الذي تستخدمه أمه والنبلاء والفرنسيون ذريعة لحياكة المؤامرات، ويعهد بذلك إلى مولاه هيوبرت الأنجيري. ثم يصحو ضمير هيوبرت فلا يقتل آرثر، ويصحو ضمير الملك فيتمنى لو أن هيوبرت لم يقتل آرثر، ولكن آرثر، وهو يهرب كما أوصاه هيوبرت، يقفز من على أحد جدران القلعة فيموت، فيشطاط غضب النبلاء الذين يتيقنون أن جون قد ارتكب تلك الجريمة الشنعاء؛  ويدخل جون في حرب أهلية حامية تضطره إلى التخلي عن المقاطعات النورماندية لفرنسا والانكفاء إلى داخل الجزيرة الإنجليزية. 

وبنهاية المسرحية، ونهاية عهد الملك جون، يبدأ صراع إنجليزي من أجل "استعادة" المقاطعات النورماندية، سيستمر في مسرحيات شكسبير هنري الخامس وهنري السادس بأجزائها الثلاثة. وتبدأ أيضا علاقة ملتبسة مع القارة الأوروبية لن تنتهي بتصويت بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي في 2016 ولا بانتخابهم حكومة يمينية لإدارة هذا الخروج في 2019.

التقطت المخرجة إليانور رود هذا التناغم ما بين الماضي والحاضر فبدأت العرض بالراديو وهو يعلن "هنا البي بي سي" وجعلت العرض يدور في الستينات. جعلنا هذا، مرة أخرى، نستشعر الهدوء الذي يسبق العاصفة الثاتشرية. هذه الرؤية المعاصرة للمسرحية جاءت مليئة بالحيوية، بألوان أواخر الستينيات البراقة، وبأداء قائم على الحركة كان في بعض الأحيان أشبه ما يكون بعرض راقص. وكذلك مشاهد المعارك، وبعض مشاهد التآمر، قُدِّمت على خشبة حيوية تكاد تكون راقصة، خصوصا في مشهد تآمر ملك فرنسا فيليب الثاني مع الصبي آرثر بينما الملك يتمرن على الملاكمة. وبدلا من المعارك الضخمة جعلت المخرجة الحروب في هذه المسرحية تشبه تصفية النزاعات بين العصابات، وجعلت المحاربين يتخذون من الهراوات ومضارب البيسبول وقطع الأثاث سلاحا (بالإضافة إلى معركة كبيرة بتراشق الطعام على إثر إفساد الفاتيكان لزفاف بلانش إلى الأمير لويس؛ وقد تضمنت دعايات المسرحية إنذارا للجالسين في الصفوف الأولى بأنه قد يصيبهم نصيب من هذه المعركة وألا يرتدوا ملابس أنيقة قد يخافون عليها من الاتساخ من هذا الطعام).

وإن كانت هذه المشاهد قد خففت من دموية الصراع، إلا أنها جعلته في الوقت ذاته أقرب إلى المشاهد (الذي يلتقي هذه الأشياء التي أصبحت أسلحة، وهذه الساحات التي أصبحت ساحات حرب، في حياته اليومية). ويتحول المشهد الذي يشرع فيه هيوبرت في قتل آرثر إلى مشهد رعب متكامل، إذ يشرع هيوبرت في فعلته الشنعاء ببرود وقد ارتدى ثياب الجراحين وقفازاتهم، وإذ يأخذ آرثر إلى ما يشبه غرفة عمليات جراحية، ويعد الحقنة التي ستعميه (إذ ينوي، بحسب النص الأصلي، أن يحرق عينيه قبل قتله). هذا العنف البارد والمعقم، إن جاز التعبير، والذي يذكرنا بالاغتيالات السياسية وبتصفية المعارضين في عالمنا المعاصر، كما يذكرنا بأفلام الرعب الأمريكية حيث القاتل هادئ وبارد، يُبرِزُ، من خلال التناقض، الصراع الداخلي لهيوبرت، كما يُبرِز بشاعة الجريمة خاصة وآرثر الصغير يستعطف هيوبرت حتى يقول :"لو أنَّ مَلَكًا جاء لي، وأخبرني أن هيوبرت سيسمل عيني، لما صدقته، حتى أسمعها، من لسان هيوبرت."

"معيار بمعيار" ومجال الدولة البصري

ماذا يحدث عندما يصبح الشخص الذي تفر إليه هو الشر الذي تفر منه؟  وهل عندما تتدخل السلطة القائمة بالثواب والعقاب و"بمعيار لكل معيار" يعم العدل أم تتفاقم المشاكل؟

في هذه المسرحية ينزل الدوق فنسنتشيو مؤقتا عن سلطته لنائبه أنجيلو ليجول بين الرعية متنكرا. وفي المقابل يكون أنجيلو قد مل من الفساد الأخلاقي المستشري في البلاد فيحكم بالحديد والنار ويعاقب الفجور بالإعدام. ويساق رجل يدعى كلوديو إلى الإعدام لارتياده بيوت الدعارة، فتتوسط أخته إيزابيلا، التي تتدرب في سلك الرهبانية، لدى أنجيلو الذي يعجبه جمالها فيراودها عن نفسها ويعدها إن مكنته من نفسها أن يعفو عن أخيها. وحين تهدده بأنها ستكشف أمره يقول لها إن أحدا لن يُصَدِّقَها.

وتصبح إيزابيلا أمام معضلة أخلاقية، فهل الذنب الأكبر هو أن تمكن أنجيلو منها  (وتخون الوعد الذي قطعته للكنيسة، وليسوع، بالتبتل) أو أن تترك أخاها يموت وهي تعلم أنها تستطيع إنقاذه. هنا يتدخل الدوق المتنكر بحيلة وهي أن تعد إيزابيلا أنجيلو بالوصال في مكان مظلم ثم بدلا من إيزابيلا يأتي بماريانا التي كان أنجيلو قد تزوجها عرفيا ولم يتمم زواجه.

يلعب الدوق دور الآلة الإلهيةdues ex machina   التي تحل  حبكة المسرحيات حين تستحكم، كما في بعض التراجيديات اليونانية،  ويعلن في الهاية عن هويته الحقيقية في النهاية ليعاقب المسيئين بقسوة، ويعيد الحقوق للمظلومين، ويأتي بإيزابيلا ليعيد لها اعتبارها أمام الناس قبل أن يطلبها للزواج. ويبدو كما لو أن المسرحية تنتهي نهاية سعيدة، تقليدية وساذجة. ولكننا ما نلبث، إن دققنا، أن نرى في قسوة الدوق في معاقبة المتطاولين تكرارا لمغالاة أنجيلو في العقاب. ثم نرى في طلبه إيزابيلا للزواج نوعا من تكرار ابتزاز أنجيلو الجنسي لها خاصة ونحن نعلم أنها تريد أن تصبح راهبة – وخاصة ونص شكسبير يتركنا معلقين فلا يقول لنا إن كانت قبلت أم رفضت. وفي هذا العرض نرى الامتعاض على وجه إيزابيلا التي لا تعطي يدها ليد الدوق الممتدة بطلب الزواج، فينفتح المجال لصراع جديد. تخرج بنا هذه النهايةُ من الكوميديا إلى شكل من أشكال التراجيديا أو من أشكال المسرح السياسي الذي يمثل تكرار المظالم مهما تغير الحكام.

وبهذه الطريقة نرى أن الدوق وأنجيلو يمثلان طوال المسرحية نمطين مختلفين من أنماط السلطة.إذ يحاول أنجيلو بسط سلطة الدولة على ما يخفى عليها، بشكل يذكرنا بأجهزة التجسس في البلاط التيودوري وبمحاولة الغلاة التطهريين مد السلطة الأخلاقية للدولة إلى الملاهي والمسارح وكل الجيوب التي تخرج عن سيطرتها (وهي المحاولات التي توالت في عهد الملكة إليزابيث ولم يعش شكسبير ليرى نجاح هؤلاء الغلاة في إغلاق مسرحه وهدمه حين تسلموا السلطة بمساعدة البرلمان. وربما كان في تصوير نفاق أنجيلو الذي يدعو للفضيلة ثم يراود الراهبات عن أنفسهن نوع من تصفية الحساب مع هؤلاء التطهريين وهو أمر يتكرر في مسرحيات شكسبير).

أما الدوق فإنه يمثل نمطا أكثر قدما، إذ يقوم حكمه من البداية على  ألا تتدخل الدولة فيما يبدو لها. أما حينما يريد أن يعرف ما يجري وراء مجال الدولة البصري فهو لا يلجأ إلى جهاز من الجواسيس و"البصاصين" ولا إلى أجهزة الدولة الرقابية والعقابية، ولكنه يتنكر وينزل بنفسه، مثل عادة الملوك القدامى وحكاياتهم، ومثل حكايات الخلفاء الأوائل عندنا.وحتى حين يداوي الدوق الأمور يداويها بالتراضي وبما هو عرفي, فقط عندما يعود إلى العرش محملا بالمعرفة التي اكتسبها من تفقده للناس متنكرا، تصبح لدى الدوق سلطة طاغية قادرة على النفاذ إلى ما يخفى عن الدولة ويصبح نسخة أخرى من أنجيلو الذي كانت إيزابيلا، وكنا كمشاهدين، نلوذ بالدوق ليخلصنا منه.

وكما هو واضح، فقد اختارت الشركة هذه المسرحية لتناغمها مع صعود حركة "أنا أيضا" المناهضة للاغتصاب وللتكتم أو التواطؤ عليه. ولكن معدي المسرحية نجحوا في الوقت نفسه أن يقدموا دراما عن الانحدار الأخلاقي لبعض الشخصيات، والمعضلات الأخلاقية لشخصيات أخرى، من دون أن ينزلقوا إلى الرسائل السياسية والأخلاقية الزاعقة أو الفارغة خاصة وقد جعلوا من بعض الشخصيات الرجال في النص الأصلي نساءً، ليصبح الإنكار الذكوري للاغتصاب أكثر قسوة حين تتواطأ عليه نساء (كما يحدث كثيرا في عالمنا المعاصر) ونرى أنفسنا لا أمام صراع ساذج بين النساء والرجال ولكن أمام سلطة ذكورية تشكل، في معظم الأحيان، آراء الرجال والنساء.

موسم النساء القويات؟

هناك نقد سطحي يوجه لشكسبير بأنه لم يكتب شخصيات نسائية قوية، وأن النساء في مسرحياته ذوات بعد واحد. طبعا هذا النقد يفترض أن شكسبير لم يكتب شخصيات نسائية سوى كاثرين المتوحشة ويتغاضى عن سلسلة من النساء القويات ومن الشخصيات النسائية المركبة في مسرحياته.

وهذا العام عمدت شركة شكسبير الملكية إلى مسرحية "ترويض الشرسة" فقلبت رجالها نساءً ونساءها رجالا. وفي مسرحية "الملك جون"، التي تتضمن بالفعل شخصية امرأة قوية هي إليانور أم الملك جون والعقل المدبر وراء الكثير من أفعاله، قدمت ممثلة امرأة دور الملك جون، من دون أن يتحول الدور إلى دور امرأة ومن دون أن تحاول الممثلة أن تبدو رجلا. تقول مخرجة العرض إليانور رود أن قرارها هذا لم يكن بدوافع سياسات النوع الاجتماعي/الجندر ولكنه كان يهدف إلى استكشاف المسرحية واستكشاف طاقات الممثلين بطريقة جديدة.

أما المسرحية الشكسبيرية التي تستشرف بالفعل سياسات النوع الاجتماعي والجنسانية، فهي بالتأكيد مسرحية  "كما تريدها"؛ ليس فقط من خلال شخصية روزالين، قوية الشخصية واسعة الحيلة، التي تلعب الدور الأكبر في حل عقدة المسرحية، ولكن  أيضا من خلال شبكة مربكة ومضحكة من تغير الأدوار-الأنواع الجندرية وتغير الميول مع تغير الأدوار، جعلتها المخرجة كمبرلي سايكس أكثر إرباكا وإضحاكا بإجراء تغييرات إضافية على جنس الشخصيات، لتقدم لنا عرضا يستكشف مفهوم الإيهام المسرحي ويكشف مسرحته بنفسه (أحيانا بخلط أساليب مسرحية مختلفةـ وأحيانا بكسر الحائط الرابع؛ على سبيل المثال في مشهد يطلب فيه الممثلون من المشاهدين أن يساعدوهم في اختيار ملابسهم للمشهد القادم، أو عندما يطلب الممثلون من الأطفال بين الحضور أن يصعدوا إلى الخشبة ليكونوا أشجار أردن ويشاركوا روزالين في قراءة قصائد أورلاندو الرديئة التي كتبها في غرامها).

وعدا عن نساء شكسبير القويات، كانت هناك بلفديرا وأكويلينا في "إنقاذ البندقية" وغيرترود بيل في "متحف في بغداد." إلا أن أقوى النساء في هذا الموسم كانت امرأة عربية، هي ليلى عالمة الآثار العراقية في "متحف في بغداد"، إذ تقف بحزم أمام تاريخ الاستعمار والاستشراق وأمام واقع الغزو الأمريكي الذي ترفضه بحزم حتى وإن كان طريق التحرير صعبا. وتقدم ليلى كذلك ردا على أي محاولة لاختلاق تجربة واحدة لكل هؤلاء النساء أو للمساواة ما بين المستعمِرات من النساء والمستَعمرات منهن. فليلى، التي ترفض تركة غيرترود بيل وتراها مسؤلة عن نهب آثار العراق، ترفض محاولات الأمريكيات وأنصاف البريطانيات أن يجدوا مساحة للتضامن بينهن وبينها، وحين تحاول مديرة المتحف، نصف العراقية ونصف البريطانية، بينما تنظر إلى صور حفيدها (وينستون أحمد) في بريطانيا، أن تقول لليلى بأنها ستتعلم القلق حين تصبح أما، تتجاهل ليلى هذه الملاحظة أول الأمر، ثم بعد دقائق تعود وتقول: "أتعلمين، بينما ابنك في المنتزه ياخذ صُوَرًا لوينستون، لا يستطيع الآباء العراقيون أن يتركوا أولادهم بالخارج؛ لم تعد ثمة منتزهات... [لم يعد هناك سوى] القناصة والموت؛ وللكبار أيضا. فلا تقولي لي إني سأتعلم القلق عندما يصبح عندي طفل، أنا عراقية [وتكررها بالعربية]؛ أنا أستطيع أن أعلم العالم كيف يكون القلق!"  

Comments

Popular posts from this blog

ديوان الأعشاب: نباتات عطرية في تراث الشعوب

(Semi-)Academic Rants: Liberal Arts is what we make of it

Trump, Biden, Clinton, and the Politics of Presidential Sexual Misconduct: An Unfinished Draft