النيوليبرالية ودينها

في السنة الأولى لي في نيو يورك، وأثناء الحديث عن تشكل الذات في ظل شبكة علاقات القوى المهيمنة، سألنا الأستاذ إن كنا نرى من الممكن أن يجمع المرء بين أن يكون ذاتا نيوليبرالية وذاتا مؤمنة، أو بين أن يكون من رعايا السوق ومن رعايا الدين.

كان الحديث يدور في سياق أن السوق العالمية واقتصادياتها تفرض على الناس أنماطا معينة من العيش ومن التفكير ومن العلاقة مع هذه السوق وثقافتها (ليس فقط ثقافات التنافس وجمع المال والفردية وما إلى ذلك مما تقوم عليه اقتصاديات السوق، ولكن أيضا ما تنتجه هذه السوق من أفلام ومسلسلات وأغان وغير ذلك مما يفرض صورة واحدة ونمطا واحدا على الصور والأنماط الأخرى—باختصار أيديولوجيا السوق والأيديولوجية الأمريكية كأيديولوجية السوق المهيمنة).

جاء سؤال الأستاذ ونحن في نيو يورك، حيث تضع هذه السوق العالمية مركز ثقلها، وتنادي على الذوات التي تصنعها هذه السوق لكي تهوي أفئدتهم إلى هذا المكان—من خلال الأفلام والمسلسلات وهذا حديث يطول، ومن خلال الجامعات التي تصور على أنها كعبة العلوم (ومنها جامعة كولومبيا التي كنا ندرس فيها) ومن خلال تكريس مركز البورصة في وول ستريت التي أصبحت مجازا عن السوق العالمية، ومن خلال المحطات الإعلامية والجرائد العالمية والتي تجمع أخبار العالم ثم تشكلها على هوى هذا المركز والتي تتخذ من وسط مانهاتن مقرا لها، حتى سمي الميدان الأشهر بوسط مانهاتن بميدان التايمز نسبة إلى جريدة النيو يورك تايمز التي يشرف مقرها على الميدان.


هذا الميدان بالذات، تزعم موسوعة ويكيبيديا أنه يسمى بتقاطع شوارع العالم، حيث يفيض الناس إليه من كل حدب وصوب، من كل أطراف الإمبراطورية، وحيث يتمثل ويتركز هذا العالم الذي يخلقه السوق، من خلال لوحات براقة منها ما هو للدعاية لهذا السوق، ومنها ما يعرض آخر تطورات البورصة، ومنها شريط الأخبار الذي شغل بال شاعرنا تميم البرغوثي،1 وتتواطأ كلها على تعريف المكان وجعله مركزا لهذه الدنيا التي يخلقها هذا السوق ثم يعيد تمثيلها في مركزه، لتكون قبلة للعالمين –وفي وسط كل هذا مركز، على شكل مكعب، للتطوع في الجيش الأمريكي؛ وإنه لمن العبث أن يظن أحد أن حي المسارح والمطاعم  ومنتزه السياح هو مكان عملي لدعوة الناس للتطوع في الجيش ولا أعتقد أنهم وضعوه هناك لأسباب عملية تتعلق بجمع المتطوعين، وإنما للتأكيد، لكل قاصدي هذه القبلة من أمريكيين وأجانب، على مركزية الجيش الأمريكي في عالم السوق النيوليبرالية، المادي والخيالي سواء.

وعندما كنت حديث العهد بنيو يورك، وعندما كنت أطوف للمرة الأولى بميدان التايمز وأسعى ما بين شارعي 42 و 47، تذكرت الحج والعمرة وكيف تجمعان المؤمنين من أعراق وأخلاط وألسنة مختلفة لتخلقا لهم عالما ثقافيا وروحيا واحدا وتجعلا من اجتماعهم في بيت الله الحرام مركزا لهذا العالم وقبلة، وكيف تصبح مناسك الاجتماع والطواف والسعي تكريسا لهذا العالم.

سؤال الأستاذ جعلني أشعر كما لو كنا ننتمي إلى عالمين، أحدهما يتخذ من الكعبة مركزا، والآخر يتخذ من ميدان التايمز، أو كأننا ندين بدينين، دين الإسلام ودين النيوليبرالية. لا أتحدث هنا عن إيمان في القلب ولكن عن الدين كمجموعة معتقدات وممارسات ورؤية للعالم، تعضد بعضها البعض.

إلا أن زيارة أخيرة إلى بيت الله الحرام جعلتني أرى الأمور بشكل مغاير.

بيت الله الحرام وحصار النيوليبرالية

تمتد حدود الحرم المكي خارج أسوار المسجد الحرام لتشمل أجزاء أخرى من مكة وخارجها. أي أن جميع هذه الأراضي المحيطة بالكعبة وبالمسجد هي أرض حرم تجري عليها أحكامه.

هذه الأرض الحرام تهيمن عليها الآن تجمعات الفنادق الفخمة (بعضها محلي وأكثرها أجنبي دولي)، ولمولات التسوق التي تضم المحلات العالمية،  ولمطاعم الوجبات السريعة، من السلاسل الأمريكية إلى المطاعمم المحلية التي يتشارك فيها أصحاب رؤوس الأموال مع الأمراء.وتفرش المقاهي والمطاعم في بعض الأحيان كراسيها على الأرض أمامها، وهذه الأرض، أُذَكِّر، هي جزء من أرض الحرم وإن كانت خارج أسوار المسجد الحرام؛ ليست هذه مشكلة في حد ذاتها فلا تعارض ما بين زيارة البيت وبين أن يأكل الناس أو يتاجروا، ولكن المشكلة أن ترى عامل مطعم أو مقهى يطلب من الجالسين من غير زبائنه أن يقوموا عن الكراسي أو يحدد هذا المكان لرواد مطعم كذا وذلك المكان لرواد مطعم كيت: لقد استوليتم، بغير حق، على أرض الحرم، ثم استكثرتم أن يجلس زوار البيت في المكان الذي سرقتموه!

ومصالح أولئك وهؤلاء ترتبط بالسوق العالمية وبمراكزها المالية والثقافية في الغرب—والتي تصب بشكل أو بآخر في الإمبراطورية الأمريكية وتجعل من نيو يورك، مع غيرها من عواصم النيوليبرالية، مركزا للعالم وقِبلة.

ليست المشكلة فقط في تضارب هذه الحالة الاستهلاكية مع حالة الحج والعمرة (وأنا لست من المولعين بنقد الاستهلاكية في حد ذاتها وأرى أن التركيز على نقد الاستهلاكية يصرف النظر عن المشلكة الأساسية وهي سوء التوزيع، وحين تتحقق العدالة ليكن الناس استهلاكيين كما شاءوا، ولا أرى كذلك أن الروحانية تقتضي بالضرورة الترفع عن المادة وهذا حديث يطول) ولكن المشكلة الأكبر هي أن المركز الروحي والثقافي الإسلامي قد غدا تابعا للنظام النيوليبرالي الذي يجعل المركز في مكان آخر.

لا غنى عن الماديات والاستهلاك، ولا مفر من "سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام"، ولا مهرب في أن يكون في ذلك شيء من التجارة، ولكن في ظل النيوليبرالية لم تعد هذه التجارة رعاية للبيت الحرام وإنما أصبحت حصارا للبيت ولزواره، وإخضاعا لهم لحساب السوق العالمية ومراكزها الغربية، فيصبح احج والعمرة برعاية فندق كذا أو شركة كذا ويصبح آداء المناسك مرتبطا برأس المال العالمي.

ثمة دراسات ومقالات واجتهادات فقهية تتعلق بمكاسب السعودية من تجارة الحج والعمرة، ولكن مكاسب السوق العالمية والشركات الأجنبية العملاقة من هذه التجارة هي أمور لم تستكشف بعد. لا تقتصر هذه المكاسب على المال الذي تجنيه من نفقات زوار البيت، ولكنها تمتد أيضا إلى توظيفها للعمالة الرخيصة، القادمة في معظم الأحيان من جنوب آسيا (وفي بعض الأحيان من مصر) لخدمة هذه المنطومة الاقتصادية وإضفاء نوع من القداسة على ذلك الاستغلال. في زيارة سابقة لمكة، قبل ما يزيد على عشرة أعوام وقبل أن أفطن لكل هذه الأمور، لم أخف حنقي على العمال القادمين من جنوب آسيا الذين يعملون في قطاع الخدمات حول الحرم من دون أن يتعلموا كلمة واحدة من العربية، والذين تأثروا بأسيادهم فأصبحوا يعاملون هم أيضا الزوار والحجاج والمعتمرين بمنتهى الجلافة والرعونة، ويزيد من جلافتهم عدم معرفتهم بالعربية –وما زلت لا أجد عذرا للأجلاف منهم مهما بدا موقفي متعاليا ونخبويا؛ فلا البيت الحرام "سبوبة" لجمع المال، ولا الفاقة تبرر الرعونة والجلافة مع قاصدي بيت الله، ولا الجهل بالعربية عذر فلو ذهبوا لأمريكا لاضطروا لتعلم بعض الإنجليزية، فما بالك بلغة القرآن—ولكن ما فطنت له الآن هو أن هؤلاء أيضا هم ضحايا السوق الذي يأتي بالعمالة الرخيصة من أطراف الأرض، بعد أن يكون قد أفقر هذه الأطراف، ليعملوا مقابل ثمن بخس في حواضر النيوليبرالية، من دون أن يوفر لهم تدريبا، وأن مجاورة هؤلاء للحرم هي في حد ذاتها حج نيوليبرالي.

أما بالنسبة لزوار بيت الله الحرام أنفسهم فإن حصار المولات والفنادق لم يترك مكانا لمتوسطي الحال ورقيقيه إلا أن يفترشوا البلاط في الشريط ما بين أبراج النيوليبرالية وما بين أسوار المسجد. وحتى لو غضضنا الطرف عن هذا التفاوت الطبقي أو عالجناه، فإن الخيار يبقى ما بين أن نقيم في رحاب رأس المال العالمي أو أن نفترش العراء.

الحصار في صحن الكعبة

كل من زار مكة في العشرين سنة الماضية أو نحو ذلك يعلم أن الخشوع داخل المسجد الحرام قد غدا بعيد المنال (خاصة بالمقارنة بالحرم النبوي في المدينة المنورة، واللذين نجيا من حصار النيوليبرالية). ففي داخل المسجد، سواء في صحن الكعبة أو في أدوار المسجد المختلفة، تزاحم وتدافع وصياح وهواتف ترن – أحيانا برنات موسيقية وأحيانا بمقاطع الأذكار والأدعية أو بالآذان في غير الأوان— عدا عن ذوي الجعائل الذين يروعون الآمنين في الحرم ويصدون عن سبيل الله.

 يكثر الحديث، حتى صار من الكليشيهات، عن انحدار أخلاق المسلمين، ولا أبرئ من يفعل ذلك فالرسول عليه الصلاة والسلام نهى عمر بن الخطاب عن استلام الحجر الأسود لكي لا يزاحم الناس فيؤذيهم. إلا أن هذا الكلام يغفل دور الحصار النيوليبرالي في فرض هذا الانحدار الأخلاقي. فزيارة البيت في ظل حصار النيوليبرالية تصبح محاولة محمومة لتجميع أكبر قدر من النقاط قبل العودة إلى رحاب المولات والفنادق والماديات.

لا أتحدث فقط عن الضيق الذي يورثه هذا الحصار ولا عن هيمنة ماديته على روحية الحرم (ما زلت أرى مصطلحات المادية والروحية مصطلحات منقوصة ومضللة في بعض الأحيان)، ولكني أتحدث بشكل أساس عن خلق النيوليبرالية لذوات فردية وتدميرها للجماعة، فيدخل الناس إلى الكعبة أفرادا متدافعين ومتضاربين بدلا من أن يفيضوا جماعاتٍ متمازجة، وعن استبدال النيوليبرالية بالتنافس في الإحسان، الذي حض عليه القرآن، التنافس بمعناه الرأسمالي حيث دهس المنافس أو دفعه إلى الخلف لكي لا يسبقك على ما ستحصل عليه من نقاط.

هذا الحصار يمتد إذن إلى داخل أسوار الحرم المكي، بل إلى عصب هذا الدين نفسه، إذ يعطب هذا الحصار قدرة الكعبة على جمع المسلمين في نسيج واحد، فلا يكتفي بإخضاع العالم الذي تنتجه هذه القبلة للعالم النيوليبرالي الذي قبلته في الغرب ولكنه يعمد إلى توهين نسيج هذا العالم أو تدميره.

هل بقي الخير؟

هل سنتهم بالسذاجة الحالمة إذا ما قلنا إن البيت ما زال يقاوم هذا الحصار؟ فبرغم كل هذه المظاهر، وبرغم الساعة العملاقة المطلة على البيت كأنها تعلن أن السيادة على الحرم هي للأسواق والأموال والأمراء لا للكعبة، وبرغم الضجيج والتشاحن والجعائل، ما زال مشهد الكعبة وحده قادرا على أن يبث مزيجا عجيبا من الرهبة والحنين في قلب من يراه. وما زال هناك من يوزع الطعام والشراب على الناس في الحرم، ومازال هناك من المطاعم من يوزع الطعام بالمجان ساعة لمن يطلبه، وما زال من أجمل ما يشعر به المرء أثناء الطواف تعاقب طوائف مختلفة من الناس به، يذكرون الله بألسنة مختلفة، أحيانا بلهجات عربية مختلفة، وأحيانا بلغات أخرى، وأحيانا يلحنون بالعربية التي لا يتكلمون بها إلا في المناسك، ومازال هناك من يتعامل مع من حوله باللين والمودة ومن يخشع في صلاته وفي تلاوته بالرغم من هذا الحصار.

ربما ما زال هناك أمل في أن يولي الناس وجههم إلى قبلة غير قبلة الإمبريالية ورأس المال، وأمل في دين غير دين النيوليبرالية، وفي عالم غير عالم السوق.



1
أجاد تميم في وصف اجتماع الناس من مختلف الأعراق والألسنة في نيو يورك وفي هذا الميدان بالتحديد، ودور هذا الشريط الإخباري في جعل هذا الميدان مركزا للعالم وفي تهميشنا نحن العرب من هذا المركز، فنصبح مشدودين إلى هذا المركز ومغتربين عنه في نفس الوقت، مما يذكره – ويذكرنا- بواقع الإمبراطورية الأليم "و هذاالشريط يذكرك أنها لهم لا لك،وأن هذه المدينة الحية مملوكة لواشنطن الرخامية." ولكني أختلف مع تميم في أن عداء هؤلاء لنا هو أمر هامشي. نحن نتحدث عن ثقافة قامت بشكل كامل على التمايز عما هو عربي إو إسلامي (أو تركي في مرحلة سابقة) ومن ثم رفضه والتعالي عليه. والمفارقة هي أنه بالرغم من أن حبهم أو كرههم لنا لن يؤثر كثيرا في حياتهم (على العكس من الحال عندنا إذ ترتبط حياتنا وموتنا بموقفنا منهم كما يقول تميم) إلا أنهم يجعلون من كرهنا ورفضنا مركزا لحياتهم. طبعا لن يتسع المجال هنا للاستفاضة في هذه النقطة، وقد قدم جوزيف مسعد في كتابه الموسوم الإسلام في الليبرالية مدخلا مهما لفهم هذه العلاقة.

Comments

Popular posts from this blog

ديوان الأعشاب: نباتات عطرية في تراث الشعوب

(Semi-)Academic Rants: Liberal Arts is what we make of it

Trump, Biden, Clinton, and the Politics of Presidential Sexual Misconduct: An Unfinished Draft