استطراد عن العثمانيين والدم وشكسبير
قُلتُ إنَّ قسوة العثمانيين كان
يتبعُها في كثيرٍ من الأحيان استتبابٌ للأمر تُعصَمُ فيه الدماء؛ سُنَّةُ قتلِ
السلاطين لإخوتِهم، التي استَنَّها محمد بن مراد الفاتح لكي لا ينافسَه إخوتُهُ،
لو كَبِروا، على العرش والتي سار فيها خُلفاؤه من بعده مائة سنة واثنين وعشرين حتى
أبطَلَها بعدَهُ السلطان أحمد الأول، والتي استهَلَّ بها مسلسل "ممالك
النار" أحداثَهُ، هي مثالٌ مهم: إذ صارت وصمةً للسطنةِ بين الأمم حتى جعلَ شكسبير الملكَ هنري الخامس
يقول لإخوته مطمئنا، وهو يصعد على العرش: "يا إخوتي، إني أرى الخوف يخالط
الحزن في أعينكم. [لا تخافوا] إنَّ هذا بلاط الإنجليز لا الترك؛ لا مُراد يرثُ مُرادًا
بل هاري [هنري يرث] هاري [هنري]" طبعا يخلق شكسبير/هنري الخامسُ هنا تناقُضًا
بين إنجلترا من حيث هي دارُ الأمانِ والأُلفة وتركيا من حيث هي دارُ الدماء التي يَقتُلُ
فيها الأخُ إخَوتَهُ، ونرى في كلام الملك هاري/هنري نُسخةً واضحةً من الاستشراق
المبكر الذي لا يُعَرِّف الغرب إلا بمُقَابَلتِهِ مَعَ الشَّرق.
ولكنَّ شكسبير قدَّمَ
لنا هذهِ الجُملة، التي قد تَبدو عُنصريةً ومُقحَمَة، في خضمِّ بُحورِ الدماء التي
خاضَ فيها هنري الخامسُ منذُ كان أميرًا يُحاربُ مع أبيهِ ضِدَّ
أقاربِه وأصهارِه لكي يُوَحِّدَ إنجلترا، (من بعد أن انتزع أبوه هنري الرابعُ
الحكمَ من ريتشارد الثاني بحربٍ دمويةٍ أُخرى)، قبلَ أن يخوضَ في دماءِ الفرنسيين في
نِزاعٍ مع قريبِهِ الملكِ تشارلز السادسِ على أحقيةِ وِراثةِ عرشِ فرنسا، وتتوالى الحروبُ
الدمويةُ في تاريخِ إنجلترا وفي ملاحِمِ شكسبير التاريخية ونرى العنفَ ما بين
أبناءِ البيتِ الواحدِ في ذُرَوتِهِ في مسرحيةِ الملكِ جون إذ تُوَاطِئُ الملكةُ
إلينور ابنَها الملكَ جون على قتلِ حفيدِها آرثر لكي لا يُصارعَ جونَ على العرش.
وبالجُملةِ التي يُطَمئِنُ
بها هنري الخامسُ إخوتَهُ قبل أن يَستَهِلَّ حَمَّامَ دمٍ جديد في إنجلترا وفرنسا،
يتركُنا شكسبير نتساءل، ما دامتِ السياسةُ عنفًا كُلَّها ودمًا، فهل الأجدرُ أن
يكونَ أهلُ البَلاطِ رُحَمَاءَ فيما بينهم ويقاتلوا بعضَهُم البعضَ بالناس ويُغرِقوا
البلادَ في حروبٍ أهليةٍ كما كانَ يحدُثُ في إنجلترا وقتَها، أم أنْ يُعمِلَ صاحِبُ
السلطةِ السيفَ في بلاطِهِ لِيَئِدَ الفِتَن ويحقِنَ دِماءَ الناس كما فَعَلَ التُرك
وكما حاول الملكُ جون أن يفعل؟
طبعا ليست عِندِي إجابة، فلا شيءَ
يُبَرِّرُ قتلَ رضيعٍ لم يَجْنِ جَريرةً بَعد وليس هدفي إصدار أحكامٍ قِيَمية عن
السياسات الداخلية للبلاط العثماني (أو البلاط الإنجليزي) ولكنِ التَذكِرة بأنَّ قَسوةَ
العثمانيين فيما بينهم كان يوازيها أمنٌ وأمانٌ في بلاد السلطنة— على الأقلَّ
بالمقارنةِ بما كانَ يحدثُ في أوروبا. لا أتحدَّثُ هنا عَمَّا حَدَثَ في آخِرِ عهدِ
السلطنة حين بزغتِ القومياتُ والصراعاتُ الطائفية والعرقية التي غَذَّاها الاستعمار
وفَشَلتِ السلطنةُ في احتوائها؛ ولا أتحدَّثُ طبعًا عن مجازرِ الأرمنِ التي أخذَ
قرارَها مجموعةٌ من "الإصلاحيين" القوميين التركِ في آخر عهدِ السلطنةِ
وكانت في رأيي أحدَ عوارضِ سُقوطِها إنْ لم تَكُنْ أحدَ أسبابِه.
Comments
Post a Comment